سورة القصص - تفسير تفسير ابن كثير

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (القصص)


        


{فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ (80)}.
يقول تعالى مخبرًا عن قارون: إنه خرج ذات يوم على قومه في زينة عظيمة، وتجمل باهر، من مراكب وملابس عليه وعلى خدمه وحشمه، فلما رآه مَنْ يريد الحياة الدنيا ويميل إلى زُخرفها وزينتها، تمنوا أن لو كان لهم مثل الذي أعطي، قالوا: {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} أي: ذو حظ وافر من الدنيا. فلما سمع مقالتهم أهل العلم النافع قالوا لهم: {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} أي: جزاء الله لعباده المؤمنين الصالحين في الدار الآخرة خير مما ترون.
كما في الحديث الصحيح: يقول الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، واقرؤوا إن شئتم: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17].
وقوله: {وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ}: قال السدي: وما يلقى الجنة إلا الصابرون. كأنه جعل ذلك من تمام كلام الذين أوتوا العلم. قال ابن جرير: وما يلقى هذه الكلمة إلا الصابرون عن محبة الدنيا، الراغبون في الدار الآخرة. وكأنه جعل ذلك مقطوعًا من كلام أولئك، وجعله من كلام الله عز وجل وإخباره بذلك.
{فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)}.
لما ذكر تعالى اختيال قارون في زينته، وفخره على قومه وبغيه عليهم، عقب ذلك بأنه خسف به وبداره الأرض، كما ثبت في الصحيح- عند البخاري من حديث الزهري، عن سالم- أن أباه حدثه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بينا رجل يجر إزاره إذ خسف به، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة».
ثم رواه من حديث جرير بن زيد، عن سالم عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحوه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا النضر بن إسماعيل أبو المغيرة القاص، حدثنا الأعمش، عن عطية، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينا رجل فيمَنْ كان قبلكم، خرج في بُرْدَيْن أخضرين يختال فيهما، أمر الله الأرض فأخذته، فإنه ليتجلجل فيها إلى يوم القيامة».
تفرد به أحمد، وإسناده حسن.
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا أبو خَيْثَمَةَ، حدثنا أبو معلى بن منصور، أخبرني محمد بن مسلم، سمعت زيادًا النميري يحدث عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينا رجل فيمن كان قبلكم خرج في بردين فاختال فيهما، فأمر الله الأرض فأخذته، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة».
وقد ذكر الحافظ محمد بن المنذر- شكَّر- في كتاب العجائب الغريبة بسنده عن نوفل بن مساحق قال: رأيت شابًّا في مسجد نجران، فجعلت أنظر إليه وأتعجب من طوله وتمامه وجماله، فقال: ما لك تنظر إلي؟ فقلت: أعجب من جمالك وكمالك. فقال: إن الله ليعجب مني. قال: فما زال ينقص وينقص حتى صار بطول الشبر، فأخذه بعض قرابته في كمه وذهب.
وقد ذُكر أن هلاك قارون كان عن دعوة نبي الله موسى عليه السلام واختلف في سببه، فعن ابن عباس والسدي: أن قارون أعطى امرأة بَغِيَّا مالا على أن تبهت موسى بحضرة الملأ من بني إسرائيل، وهو قائم فيهم يتلو عليهم كتاب الله، فتقول: يا موسى، إنك فعلت بي كذا وكذا. فلما قالت في الملأ ذلك لموسى عليه السلام، أرْعِدَ من الفَرَق، وأقبل عليها وصلى ركعتين ثم قال: أنشدك بالله الذي فَرَق البحر، وأنجاكم من فرعون، وفعل كذا وفعل كذا، لما أخبرتني بالذي حملك على ما قلت؟ فقالت: أما إذ نَشَدْتَني فإن قارون أعطاني كذا وكذا، على أن أقول لك، وأنا أستغفر الله وأتوب إليه. فعند ذلك خَرّ موسى لله عز وجل ساجدًا، وسأل الله في قارون. فأوحى الله إليه أني قد أمرت الأرض أن تطيعك فيه، فأمر موسى الأرض أن تبتلعه وداره فكان ذلك.
وقيل: إن قارون لما خرج على قومه في زينته تلك، وهو راكب على البغال الشّهب، وعليه وعلى خدمه الثياب الأرجوان الصّبغة، فمر في جَحْفَله ذلك على مجلس نبي الله موسى عليه السلام، وهو يذكرهم بأيام الله. فلما رأى الناس قارون انصرفت وجوه الناس حوله، ينظرون إلى ما هو فيه. فدعاه موسى عليه السلام، وقال: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: يا موسى، أما لئن كنت فُضِّلتَ عَلَيَّ بالنبوة، فلقد فضلت عليك بالدنيا، ولئن شئت لتخرجن، فلتدعون عليّ وأدعو عليك. فخرج وخرج قارون في قومه، فقال موسى: تدعو أو أدعو أنا؟ قال: بل أنا أدعو. فدعا قارون فلم يجب له، ثم قال موسى: أدعو؟ قال: نعم. فقال موسى: اللهم، مُر الأرض أن تطيعني اليوم. فأوحى الله إليه أني قد فعلت، فقال موسى: يا أرض، خذيهم. فأخذتهم إلى أقدامهم. ثم قال: خذيهم. فأخذتهم إلى ركبهم، ثم إلى مناكبهم. ثم قال: أقبلي بكنوزهم وأموالهم. قال: فأقبلت بها حتى نظروا إليها. ثم أشار موسى بيده فقال: اذهبوا بني لاوى فاستوت بهم الأرض.
وعن ابن عباس أنه قال: خُسف بهم إلى الأرض السابعة.
وقال قتادة: ذكر لنا أنه يخسف بهم كل يوم قامة، فهم يتجلجلون فيها إلى يوم القيامة.
وقد ذكر هاهنا إسرائيليات غريبة أضربنا عنها صفحًا.
وقوله: {فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ} أي: ما أغنى عنه مالُه، وما جَمَعه، ولا خدمه ولا حشمه. ولا دفعوا عنه نقمة الله وعذابه ونكاله به، ولا كان هو في نفسه منتصرًا لنفسه، فلا ناصر لهلا من نفسه، ولا من غيره.
وقوله تعالى: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأمْسِ} أي: الذين لما رأوه في زينته قالوا {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}، فلما خسف به أصبحوا يقولون: {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} أي: ليس المال بدالّ على رضا الله عن صاحبه وعن عباده؛ فإن الله يعطي ويمنع، ويضيق ويوسع، ويخفض ويرفع، وله الحكمة التامة والحجة البالغة. وهذا كما في الحديث المرفوع عن ابن مسعود: «إن الله قسم بينكم أخلاقكم، كما قسم أرزاقكم وإن الله يعطي المال من يحب، ومن لا يحب، ولا يعطي الإيمان إلا من يحب».
{لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا} أي: لولا لُطف الله بنا وإحسانه إلينا لخسف بنا، كما خسف به، لأنا وَددْنا أن نكون مثله.
{وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} يعنون: أنه كان كافرًا، ولا يفلح الكافر عند الله، لا في الدنيا ولا في الآخرة.
وقد اختلف النحاة في معنى قوله تعالى ها هنا: {وَيْكَأَنَّ}، فقال بعضهم: معناها: ويلك اعلم أن، ولكن خُفّفت فقيل: ويك، ودلَّ فتح أن على حذف اعلموهذا القول ضعَّفه ابن جرير، والظاهر أنه قوي، ولا يشكل على ذلك إلا كتابتها في المصاحف متصلة ويكأن. والكتابة أمر وضعي اصطلاحي، والمرجع إلى اللفظ العربي، والله أعلم.
وقيل: معناها: ويكأن، أي: ألم تر أن. قاله قتادة. وقيل: معناها وي كأن، ففصلها وجعل حرف وي للتعجب أو للتنبيه، وكأن بمعنى أظن وأحسب. قال ابن جرير: وأقوى الأقوال في هذا قول قتادة: إنها بمعنى: ألم تر أن، واستشهد بقول الشاعر:
سَألَتَاني الطَّلاق أنْ رَأتَاني *** قَلّ مَالي وقَدْ جئْتُمَاني بِنُكر
وَيْكأنْ مَنْ يكُن له نَشَب يُحْ *** بَبْ ومن يَفْتقر يَعش عَيشَ ضُرّ


{تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84)}.
يخبر تعالى أن الدار الآخرة ونعيمها المقيم الذي لا يحول ولا يزول، جعلها لعباده المؤمنين المتواضعين، الذين لا يريدون علوًّا في الأرض، أي: ترفعًا على خلق الله وتعاظمًا عليهم وتجبرًا بهم، ولا فسادًا فيهم. كما قال عكرمة: العلو: التجبر.
وقال سعيد بن جبير: العلو: البغي.
وقال سفيان بن سعيد الثوري، عن منصور، عن مسلم البطين: العلو في الأرض: التكبر بغير حق. والفساد: أخذ المال بغير حق.
وقال ابن جُرَيْج: {لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ} تعظمًا وتجبرًا، {وَلا فَسَادًا}: عملا بالمعاصي.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن وَكِيع، حدثنا أبي، عن أشعث السمان، عن أبى سلام الأعرج، عن علي قال: إن الرجل ليعجبه من شراك نعله أن يكون أجود من شراك صاحبه، فيدخل في قوله: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}.
وهذا محمول على ما إذا أراد بذلك الفخر والتطاول على غيره؛ فإن ذلك مذموم، كما ثبت في الصحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنه أوحي إليّ أن تواضَعُوا، حتى لا يفخَرَ أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد»، وأما إذا أحب ذلك لمجرد التجمّل فهذا لا بأس به، فقد ثبت أن رجلا قال: يا رسول الله، إني أحب أن يكون ردائي حسنًا ونعلي حسنة، أفمن الكبر ذلك؟ فقال: «لا إن الله جميل يحبّ الجمال».
وقال: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} أي: يوم القيامة {فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} أي: ثواب الله خير من حَسَنَة العبد، فكيف والله يضاعفه أضعافًا كثيرة فهذا مقام الفضل.
ثم قال: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، كما قال في الآية الأخرى: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل: 90] وهذا مقام الفصل والعدل.


{إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (85) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)}.
يقول تعالى آمرًا رسولَه، صلوات الله وسلامه عليه، ببلاغ الرسالة وتلاوة القرآن على الناس، ومخبرًا له بأنه سيرده إلى معاد، وهو يوم القيامة، فيسأله عما استرعاه من أعباء النبوة؛ ولهذا قال: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} أي: افترض عليك أداءه إلى الناس، {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} أي: إلى يوم القيامة فيسألك عن ذلك، كما قال تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 6]، وقال {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 109] وقال: {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ} [الزمر: 69].
وقال السدي عن أبي صالح، عن ابن عباس: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ}، يقول: لرادُّك إلى الجنة، ثم سائلك عن القرآن. قال السدي: وقال أبو سعيد مثلها.
وقال الحكم بن أَبان، عن عِكْرمِة، وعن ابن عباس، رضي الله عنهما: {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} قال: إلى يوم القيامة.
ورواه مالك، عن الزهري.
وقال الثوري، عن الأعمش، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس: {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ}: إلى الموت.
ولهذا طُرُقٌ عن ابن عباس، رضي الله عنهما، وفي بعضها: لرادك إلى معدنك من الجنة.
وقال مجاهد: يحييك يوم القيامة.
وكذا روي عن عكرمة، وعطاء، وسعيد بن جبير، وأبي قَزَعَةَ، وأبي مالك، وأبي صالح.
وقال الحسن البصري: أي والله، إن له لمعادًا، يبعثه الله يوم القيامة ثم يدخله الجنة.
وقد رُوي عن ابن عباس غير ذلك، كما قال البخاري في التفسير من صحيحه:
حدثنا محمد بن مقاتل، أنبأنا يعلى، حدثنا سفيان العُصْفُريّ، عن عكرمة، عن ابن عباس: {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} قال: إلى مكة.
وهكذا رواه النسائي في تفسير سننه، وابن جرير من حديث يعلى- وهو ابن عبيد الطَّنَافِسيّ- به.
وهكذا روى العَوْفيّ، عن ابن عباس: {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} أي: لرادك إلى مكة كما أخرجك منها.
وقال محمد بن إسحاق، عن مجاهد في قوله: {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ}: إلى مولدك بمكة.
قال ابن أبي حاتم: وقد روى عن ابن عباس، ويحيى بن الجزار، وسعيد بن جبير، وعطية، والضحاك، نحو ذلك.
وحدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر قال: قال سفيان: فسمعناه من مقاتل منذ سبعين سنة، عن الضحاك قال: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، فبلغ الجُحْفَة، اشتاق إلى مكة، فأنزل الله عليه: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} إلى مكة.
وهذا من كلام الضحاك يقتضي أن هذه الآية مدنية، وإن كان مجموع السورة مكيا، والله أعلم.
وقد قال عبد الرزاق: حدثنا مَعْمَر، عن قتادة في قوله: {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} قال: هذه مما كان ابن عباس يكتمها، وقد رَوَى ابنُ أبي حاتم بسنده عن نعيم القارئ أنه قال في قوله: {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} قال: إلى بيت المقدس.
وهذا- والله أعلم- يرجع إلى قول من فسر ذلك بيوم القيامة؛ لأن بيت المقدس هو أرض المحشر والمنشر، والله الموفق للصواب.
ووجه الجمع بين هذه الأقوال أن ابن عباس فسر ذلك تارة برجوعه إلى مكة، وهو الفتح الذي هو عند ابن عباس أمارة على اقتراب أجله، صلوات الله وسلامه عليه، كما فسره ابن عباس بسورة {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} أنه أجَلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم نُعي إليه، وكان ذلك بحضرة عمر بن الخطاب، ووافقه عمر على ذلك، وقال: لا أعلم منها غير الذي تعلم. ولهذا فسر ابن عباس تارة أخرى قوله: {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} بالموت، وتارة بيوم القيامة الذي هو بعد الموت، وتارة بالجنة التي هي جزاؤه ومصيره على أداء رسالة الله وإبلاغها إلى الثقلين: الجن والإنس، ولأنه أكمل خلق الله، وأفصح خلق الله، وأشرف خلق الله على الإطلاق.
وقوله: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي: قل- لِمَنْ خالفك وكذبك يا محمد من قومك من المشركين ومَنْ تبعهم على كفرهم- قل: ربي أعلم بالمهتدي منكم ومني، وستعلمون لمن تكون عاقبة الدار، ولِمَنْ تكون العاقبة والنصرة في الدنيا والآخرة.
ثم قال تعالى مذكِّرًا لنبيه نعمته العظيمة عليه وعلى العباد إذ أرسله إليهم: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ} أي: ما كنت تظن قبل إنزال الوحي إليك أن الوحي ينزل عليك، {إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} أي: إنما نزل الوحي عليك من الله من رحمته بك وبالعباد بسببك، فإذا منحك بهذه النعمة العظيمة {فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا} أي: معينًا {لِلْكَافِرِينَ} أي: ولكن فارقهم ونابذهم وخالفهم.
{وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزلَتْ إِلَيْكَ} أي: لا تتأثر لمخالفتهم لك وصدهم الناس عن طريقك لا تلوي على ذلك ولا تباله؛ فإن الله مُعْلٍ كلمتك، ومؤيدٌ دينك، ومظهر ما أرسلت به على سائر الأديان؛ ولهذا قال: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} أي: إلى عبادة ربك وحده لا شريك له، {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.
وقوله: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ} أي: لا تليق العبادة إلا له ولا تنبغي الإلهية إلا لعظمته.
وقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ}: إخبار بأنه الدائم الباقي الحي القيوم، الذي تموت الخلائق ولا يموت، كما قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ} [الرحمن: 26، 27]، فعبر بالوجه عن الذات، وهكذا قوله ها هنا: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} أي: إلا إياه.
وقد ثبت في الصحيح، من طريق أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد:
ألا كلُّ شَيْء مَا خَلا اللهَ بَاطِلُ ***»
وقال مجاهد والثوري في قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} أي: إلا ما أريد به وجهه، وحكاه البخاري في صحيحه كالمقرر له.
قال ابن جرير: ويستشهد من قال ذلك بقول الشاعر:
أسْتَغْفِرُ اللهَ ذنبًا لَسْتُ مُحْصِيَهُ *** رَبّ العبَاد إلَيه الوَجْهُ والعَمَلُ
وهذا القول لا ينافي القول الأول، فإن هذا إخبار عن كل الأعمال بأنها باطلة إلا ما أريد بها وجه الله عز وجل من الأعمال الصالحة المطابقة للشريعة. والقول الأول مقتضاه أن كل الذوات فانية وهالكة وزائلة إلا ذاته تعالى، فإنه الأول الآخر الذي هو قبل كل شيء وبعد كل شيء.
قال أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا في كتاب التفكر والاعتبار: حدثنا أحمد بن محمد بن أبي بكر، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا عمر بن سليم الباهلي، حدثنا أبو الوليد قال: كان ابن عمر إذا أراد أن يتعاهد قلبه، يأتي الخربة فيقف على بابها، فينادي بصوت حزين فيقول: أين أهلك؟ ثم يرجع إلى نفسه فيقول: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ}.
وقوله: {لَهُ الْحُكْمُ} أي: الملك والتصرف، ولا معقب لحكمه، {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي: يوم معادكم، فيجزيكم بأعمالكم، إن كان خيرا فخير، وإن شرا فشر.
والله أعلم. آخر تفسير سورة القصص.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9